كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الرابعة:
ما الفائدة في اختيار لفظ العبد مع أنه لو قال رسولنا لكان أدل على قبح فعلهم؟ نقول: قوله عبدنا أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله رسولنا لو قاله لأن العبد أقل تحريفًا لكلام السيد من الرسول، فيكون كقوله تعالى: {وَلَوْ تَقول عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 46].
المسألة الخامسة:
قوله تعالى: {وَقالواْ مَجْنُونٌ} إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا منه، وقالوا: هو مصاب الجن أو هو لزيادة بيان قبح صنعهم حيث لم يقنعوا بقولهم إنه كاذب، بل قالوا مجنون، أي يقول مالا يقبله عاقل، والكاذب العاقل يقول ما يظن به أنه صادق فقالوا: مجنون أي يقول مالم يقل به عاقل فبين مبالغتهم في التكذيب.
المسألة السادسة:
{وازدجر} إخبار من الله تعالى أو حكاية قولهم، نقول: فيه خلاف منهم من قال: إخبار من الله تعالى وهو عطف على كذبوا، وقالوا: أي هم كذبوا وهو ازدجر أي أوذي وزجر، وهو كقوله تعالى: {كُذّبُواْ وَأُوذُواْ} [الأنعام: 34] وعلى هذا إن قيل: لو قال كذبوا عبدنا وزجروه كان الكلام أكثر مناسبة، نقول: لا بل هذا أبلغ لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدمه فقال: وازدجر أي فعلوا ما يوجب الإنزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم وعدل عن الدعاء إلى الإيمان إلى الدعاء عليهم، ولو قال: زجروه ما كان يفيد أنه تأذى منهم لأن في السعة يقال: آذوني ولكن ما تأذيت، وأما أوذيت فهو كاللازم لا يقال إلا عند حصول الفعل لا قبله، ومنهم من قال: {وازدجر} حكاية قولهم أي هم قالوا ازدجر، تقديره قالوا: مجنون مزدجر، ومعناه: ازدجره الجن أو كأنهم قالوا: جن وازدجر، والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}.
ترتيبًا في غاية الحسن لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرئ {إِنّى} بكسر الهمزة على أنه دعاء، فكأنه قال: إني مغلوب، وبالفتح على معنى بأني.
المسألة الثانية:
ما معنى مغلوب؟ نقول فيه وجوه الأول: غلبني الكفار فانتصر لي منهم الثاني: غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي، وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف الثالث: وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملًا، ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة، بدليل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} [الكهف: 6]، {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} [فاطر: 8] وقال تعالى: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27] فقال نوح: يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم، فيكون معناه (إني) مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي.
المسألة الثالثة:
فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه أحدها: فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ثانيها: فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ثالثها: فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه، وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه، يقول القائل: اللهم أهلك الكاذب منا، وانصر المحق منا.
{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)}.
عقيب دعائه وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز؟ نقول فيه قولان أحدهما: حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه وثانيهما: هو على طريق الاستعارة، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب، وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل فتحت أبواب السماء، ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا} بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله، كما قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السماء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} [ياس: 28، 29] بيانًا لكمال القدرة، ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم.
المسألة الثالثة:
الباء في قوله: {بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} ما وجهه وكيف موقعه؟ نقول فيه وجهان أحدهما: كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول: يفتح الله لك بخير أي يقدر خيرًا يأتي ويفتح الباب، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني، وهي أن يجعل المقصود مقدمًا في الوجود، ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك، وكذلك قول القائل: لعل الله يفتح برزق، أي يقدر رزقًا يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه، فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما: {فَتَحْنَا أبواب السماء} مقرونة {بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} والانهمار الانسكاب والانصباب صبًا شديدًا، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب.
{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)}.
وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل: وفجرنا عيون الأرض، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع، إذا قلت ضاق زيد ذرعًا، أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} ولم يقل ففتحنا السماء أبوابًا، لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة، ولهذا قال: {أبواب السماء} ولم يقل: أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها.
وأما قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} فهو أبلغ من قوله: وفجرنا عيون الأرض، لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيونًا ثلاثة، ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل: فأنزلنا من السماء ماء أو مياهًا، ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة، والحكمة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} [الزمر: 21] حيث لا مبالغة فيه، وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه، غير أني ذكرته مثلًا: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60].
المسألة الثانية:
العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز؟ نقول: المشهور أن لفظ العين مشترك، والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها، أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع، أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالبًا حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين، فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة، كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل: شربت من العين واغتسلت منها، وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع، ويقال: عانه يعينه إذا أصابه بالعين، وعينه تعيينًا، حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين، وعاينه معاينة وعيانًا، وعين أي صار بحيث تقع عليه العين.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: {فَالْتَقَى الماء} قرئ {فالتقى الماءان}، أي النوعان، منه ماء السماء وماء الأرض، فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف، تجمع أيضًا، يقال: عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور: {فَالْتَقَى الماء} وله معنى لطيف، وذلك أنه تعالى لما قال: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 11] ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة، فلما قال: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} كان من الحسن البديع أن يقول: ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة، فقال: {فَالْتَقَى الماء} أي من العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء، ولو جرى جريًا ضعيفًا لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به، ولعل المراد من قوله: {وَفَارَ التنور} [هود: 40] مثل هذا.
وقوله تعالى: {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه وجوه الأول: على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء الثاني: على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث: على سائر المقادير، وذلك لأن الناس اختلفوا، فمنهم من قال: ماء السماء كان أكثر، ومنهم من قال: ماء الأرض، ومنهم من قال: كانا متساويين، فقال: على أي مقدار كان، والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان، فإن تنكير الأمر يفيد ذلك، يقول القائل: جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته، وفيه احتمال آخر، وهو أن يقال: التقى الماء، أي اجتمع على أمر هلاكهم، وهو كان مقدورًا مقدرًا، وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي، والغرق لم يكن مقصودًا بالذات، وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه، فقال: لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين.
{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)} أي سفينة، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، إشارة إلى أنها كانت من ألواح مركبة موثقة بدثر، وكان انفكاكها في غاية السهولة، ولم يقع فهو بفضل الله، والدسر المسامير.
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)}.
وقوله تعالى: {تَجْرِى} أي سفينة ذات ألواح جارية، وقوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا أو بحفظنا، لأن العين آلة ذلك فتستعمل فيه.
وقوله تعالى: {جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ} يحتمل وجوهًا أحدها: أن يكون نصبه بقوله: {حملناه} أي حملناه جزاء، أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم وثانيها: أن يكون بقوله: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} لأن فيه معنى حفظنا، أي ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له ثالثها: أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال: فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيونًا وحملناه، وكل ذلك فعلناه جزاء له، وإنما ذكرنا هذا، لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم، فوجب أن يكون جزاء منصوبًا بكونه مفعولًا له بهذه الأفعال، ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل:
المسألة الأولى:
قال في السماء: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء} [القمر: 11] لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور، ولم يقل: وشققنا السماء، وقال في الأرض: {وَفَجَّرْنَا الأرض} [القمر: 12] لأنها ذات الصدع.
الثانية: لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحارًا وأنهارًا، بل قال: {عُيُونًا} والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها، فقال: {وَفَجَّرْنَا الأرض} لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة هاهنا ما حصل بالسعة ههنا.
الثالثة: ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون، وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى: {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحًا بقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ} وأشار إلى طريق النجاة بقوله: {ذَاتِ ألواح} وكذلك قال في موضع آخر: {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} [العنكبوت: 14]، ولم يقل فأهلكوا، وقال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} [العنبكوت: 15] فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال صلى الله عليه وسلم: {يا بنى اركب مَّعَنَا} [هود: 42] وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقًا وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحًا.
الرابعة: قوله تعالى: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} أبلغ من حفظنا، يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلبًا للمبالغة.
الخامسة: {بِأَعْيُنِنَا} يحتمل أن يكون المراد بحفظنا، ولهذا يقال: الرؤية لسان العين.
السادسة: قال: كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم، وأما جزاء شكره لنا فباق، وقرئ: {جَزَاء} بكسر الجيم أي مجازاة كقتال ومقاتلة وقرئ: {لّمَن كَانَ كُفِرَ} بفتح الكاف، وأما: {كُفِرَ} ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال شكرته وشكرت له، قال تعالى: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيُؤْمِن بالله} [البقرة: 256].
ثانيهما: أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ويحتمل أن يقال: كفر به وترك الظهور المراد.
{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}.
وفي العائد إليه الضمير وجهان أحدهما: عائد إلى مذكور وهو السفينة التي فيها ألواح وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما: ترك الله عينها مدة حتى رؤيت وعلمت وكانت على الجودي بالجزيرة وقيل بأرض الهند وثانيهما: ترك مثلها في الناس يذكر وثاني الوجهين الأولين أنه عائد إلى معلوم أي تركنا السفينة آية، والأول أظهر وعلى هذا الوجه يحتمل أن يقال: {تركناها} أي جعلناها آية لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة يقول القائل: تركت فلانًا مثلة أي جعلته، لما بينا أنه من فرغ من أمر تركه وجعله فذكر أحد الفعلين بدلًا عن الآخر.
وقوله تعالى: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تم ولم يبق إلا جانب المرسل إليهم بأن كانوا منذرين متفكرين يهتدون بفضل الله فهل من مدكر مهتد، وهذا الكلام يصلح حثًا ويصلح تخويفًا وزجرًا، وفيه مسائل:
الأولى: قال هاهنا {وَلَقَدْ تركناها} وقال في العنكبوت: {وجعلناها ءايَةً} [العنكبوت: 15] قلنا هما وإن كانا في المعنى واحدًا على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث بين الإمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله: {ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ} [القمر: 13] وذكر جريها فقال: {تركناها} إشارة إلى تمام الفعل المقدور وقال هناك {وجعلناها} إشارة إلى بعض ذلك فإن قيل: إن كان الأمر كذلك فكيف قال هاهنا {وَحَمَلْنَاهُ} [القمر: 13] ولم يقل: وأصحابه وقال هناك {فأنجيناه وأصحاب السفينة}؟ نقول: النجاة هاهنا مذكورة على وجه أبلغ مما ذكره هناك لأنه قال: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي حفظنا وحفظ السفينة حفظ لأصحابه وحفظ لأموالهم ودوابهم والحيوانات التي معهم فقوله: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} لا يلزم منه إنجاء الأموال إلا ببيان آخر والحكاية في سورة هود أشد تفصيلًا وأتم فلهذا قال: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] يعني المحمول ثم قال تعالى: {واستوت عَلَى الجودى} [هود: 44] تصريحًا بخلاص السفينة وإشارة إلى خلاص كل من فيها وقوله: {ءايَةً} منصوبة على أنها مفعول ثان للترك لأنه بمعنى الجعل على ما تقدم بيانه وهو الظاهر، ويحتمل أن يقال حال فإنك تقول تركتها وهي آية وهي إن لم تكن على وزن الفاعل والمفعول فهي في معناه كأنه قال: تركناها دالة، ويحتمل أن يقال: نصبها على التمييز لأنها بعض وجوه الترك كقوله ضربته سوطًا.